حول تعدد الزوجات فى الاسلام
لقد طعن أعداء الاسلام و من فى قلوبهم مرض و من سار على نهجهم فى آيات القرآن التى تنظم أمر تعددالزوجات فى قوله تعالى : ( فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ ) (1) فيصفون ـ أى أعداء الدين ـ القرآن بأنه قد حط من شأن المرأة وحقوقها وأنه ردة إلى أعمال الجاهلية الأولى !!
وقبل أن نوضح التعدد فى الإسلام وأهدافه نجيب عن سؤال مهم وهو :
هل الإسلام هو الذى أوجد التعدد ، أم أنه كان موجوداً قبل الإسلام ؟
إن الثابت تاريخياً أن تعدد الزوجات ظاهرة عرفتها البشرية منذ أقدم العصور وفى جميع البيئات قبل الإسلام :
فى التوراة والديانة اليهودية:
لقد أباحت التوراة لليهودى الزواج بأكثر من واحدة ، ولم تحدد له عدداً ما إلا أن التلمود حدد العدد بأربعة على شرط أن يكون الزوج قادراً على إعالتهن إذ يقول : إنه لا يجوز أن يزيد الرجل على أربع زوجات ، كما فعل يعقوب إلا إذا كان قد أقسم بذلك عند زواجه الأول . وإن كان قد اشترط لمثل هذا العدد القدرة على الإنفاق (2)
فى سفر التكوين:
تزوج يعقوب عليه السلام : " (31) أبناء ليئة .. (24) وأبناء راحيل .. (25) وأبنا بلهة جارية راحيل .. (26) وابنا زلفة جارية ليئة ... " (3) فكانت له أربع حلائل فى وقت واحد : اختان هما ليئة ، وراحيل ، وجاريتين لهما .
فى سفر العدد:
وكانت لسيدنا داود عليه السلام عدة زوجات والعديد من الجوارى وكذلك لابنه سليمان عليه السلام : " أما سليمان فقد زاد الألف ويقول عنه الرب فى التوراة فولدت له داود كما تزوج أبيا ملك يهود أربعة عشر زوجة " (4) وكان لجدعون سبعون ولداً جميعهم من صلبه لأنه كان مزواجاً (31) وولدت له ايفنا سريته التى فى شكيم ابناً دعاه أبيمالك (5) ولكن نظام التعدد تم إلغاؤه طبقاً لقوانين مدنية أفتى بها علماء اليهود وأقرتها المجامع اليهودية ، وعلى ذلك اكتسبت صفة الشرعية . وقد نصت المادة 54 من كتاب الأحكام الشرعية للإسرائليين على أنه : " لا ينبغى للرجل أن يكون له أكثر من زوجة وعليه أن يحلف يميناً على هذا حين العقد " (6) ولذلك أصبح أساس التحريم ليس التوراة ، ولكن القسم على عدم القيام هو الأساس .
التعدد فى الإنجيل والديانة المسيحية:
أقرت المسيحية فى بدايتها ما أقرته اليهودية فى التعدد واستمر رجال الكنيسة لا يعترضون على ذلك حتى القرن السابع عشر الذى بدأ فيه الحظر ثم تقرر عام 1750م . ودعواهم فى ذلك ـ أى رجال الدين ـ أن ذلك إعلاء لشأنهم حتى يتفرغوا للدعوة فلا تشغلهم مشاكل النساء عن رعاية الكنيسة وأبنائها .
وقد تدرج المنع فبدأ أولاً بتحريمه على رجال الكنيسة دون غيرهم . ثم أصبح الزواج الأول لغير رجال الكنيسة هو الذى يتم بطريقة المراسيم الدينية ، وإذا أراد المسيحى الزواج بالثانية فيتم بدون مراسيم دينية ثم منع الزواج بأكثر من واحدة مع جواز التسرى (7) ولكنه أيضاً منع عام 970 بأمر البطريك إبرام السوربانى (8)
وهكذا كان المنع والرجوع فيه تشريعاً وضعياً وليس سماوياً .. ثم كانت دعوتهم إلى التبتل وقد انفردت به المسيحية دون الأديان الأخرى واعتبرته دليلاً على صلاح النفس وسبباً للقداسة والرقى فى درجات الإيمان أو الكنيسة ، فالشهوة فى اعتقادهم عيب ورذيلة لا ينبغى تحلى القديسين بها !! ولقد كان من تبرير " بولس " فى دعواه لعدم الزواج : " (32) فأريد لكم أن تكون بلا هَمْ ، إن غير المتزوج مهتم بأمور الرب (33) وهدفه أن يرضى الرب ، أما المتزوج فيهتم بأمور العالم وهدفه أن يرضى زوجته (34) فاهتمامه منقسم لذلك غير المتزوجة والعزباء تهتمان بأمور الرب وهدفهما أن تكونا مقدستين جسداً وروحاً " (9)
وهكذا حرفوا الكلم عن مواضعه فأصبحت أفكارهم هدامة ومبادؤهم خاطئة لا يقبلها عقل سليم ولا فطرة نقية .. فمن أين يأتى النسل والتكاثر البشرى بدون زواج شرعى ؟ وأين تذهب المودة والرحمة والسكينة ؟ وأين تنطفئ الشهوة الغريزية التى أودعها الله فى الإنسان ورسم لها الطريق الصحيح لتصريفها ؟ وأين يكون بيت الزوجية الحصن المانع من الإنزلاق فى الفاحشة واتخاذ الأخدان ؟ وأين تذهب عاطفة الأمومة الغريزية الفطرية وكذلك عاطفة الأبوة ؟ ....
التعدد فى الإسلام :
لقد شرع الله الزواج لبنى آدم : ( وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً )10) تكريماً لهم وإتماماً لنعمته عليهم وتطهيراً للقلوب والأبدان من أوضار الرجس والفحش والانحلال ومرتقى لهم إلى العفاف والتحصن والسكينة والمودة والرحمة والتكامل والاستقرار ، والزواج هو أعمق وأقوى وأدوم رابطة تصل بين اثنين من بنى الإنسان ، وتشمل أوسع الاستجابات التى يتبادلها فردان من نفس واحدة فى طبيعتها وتكوينها ، وإن اختلفت وظيفتها بين الذكر والأنثى : ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ) (11) فهذه هى نظرة الإسلام لحقيقة الإنسان ، ووظيفته الزوجية فى تكوينه وهى نظرة كاملة وصادقة (12)
فلم يجعل الإسلام تبتلاً ولا رهبانية: " إن الله أبدلنا الرهبانية الحنيفية السمحة " (13) بل جعل الزواج سبيلاً للصفاء والطهر والعفاف لقول الرسول صلي الله عليه و سلم: " من أراد أن يلقى الله طاهراً مطهراً فليتزوج الحرائر " (14) ويقول أيضاً رسول الله صلي الله عليه و سلم : " النكاح سنتى فمن لم يعمل بسنتى فليس منى وتزوجوا فإنى مكاثر بكم الأمم " (15) ويقول أيضاً : " من كان منكم ذا طول فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ... " (16)ومما شرعه الإسلام أيضاً رخصة " تعدد الزوجات " إذا اقتضت الضرورة وألجأت الحاجة إلى ذلك ولنا أن ندلل على ذلك فى نقاط :
أولاً : أن الإسلام لم يبتدع التعدد ، وإنما جاء فوجده منتشراً ومعروفاً فى كل بيئه ، وكان العرب فى الجاهلية يمارسونه على نطاق واسع لا يتقيدون فيه باعتبار من الاعتبارات .
ثانياً : بما أن الإسلام جاء لتنظيم أمور الناس وأحوالهم كان لا بد أن يتدخل لينظم أمر التعدد المطلق ويمنع ضرره وشره ويقيده ويهذبه ويجعله وافياً بحقوق المصلحة العامة : ( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ ) (17) وعلى إثر نزول هذه الآية أمر الرسول صلي الله عليه و سلم من كان معه أكثر من أربع أن يمسك منهن أربعاً ويسرح الباقى فقد روى البخارى فى الأدب المفرد أن غيلان بن سلمة الثقفى أسلم وتحته عشر نسوة فقال له النبى صلي الله عليه و سلم " اختر منهن أربعاً " (18) وروى أبو داود بإسناده أن عميرة الأسدى قال : أسلمت وعندى ثمانى نسوة ، فذكرت ذلك للنبى صلي الله عليه و سلم فقال : " اختر منهن أربعاً " (19) وأخرج الشافعى فى مسنده عن نوفل بن معاوية الديلمى قال : أسلمت وعندى خمسة نسوة فقال لى رسول الله صلي الله عليه و سلم: " اختر أربعاً أيتهن شئت وفارق الأخرى " فعمدت إلى أقدمهن عندى عاقراً منذ ستين سنة ففارقتها (20) وهكذا قيد الإسلام التعدد بأربعة بعد أن كان مطلقاً بدون حد منطلقاً بدون قيد .
ثالثاً : لم يترك الإسلام مبدأ التعدد لهوى الرجل بل قيده أيضاً " بالعدل " وإلا امتنعت الرخصة المعطاة له ، وجعل لذلك نوعين من العدل :
النوع الأول : عدل واجب ومطلوب : وهو العدل فى المعاملة ، والنفقة والمعاشرة ، والمباشرة ، وسائر الأوضاع الظاهرة ، بحيث لا ينقص إحدى الزوجات شئ منها ولا تؤثر واحدة دون الأخرى بشئ منها . وهذا ما نصت عليه الآية الشريفة : ( فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً ) (21)ويقول الرسول صلي الله عليه و سلم : " من كانت عنده امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه ساقط " (22) وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلي الله عليه و سلم قال : " إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن ـ وكلتا يديه يمين ـ الذين يعدلون فى حكمهم وأهليهم وما ولوا " (23)
النوع الثانى : العدل فى المشاعر : مشاعر القلوب وأحاسيس التقوى ، وهو عدل خارج عن إرادة الإنسان ، ولا يطالب به بنى الإنسان ، وهو الذى ذكرته الآية : ( وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ ) (24).
ولكنه عدل ينتفى معه الظلم بحيث إذا مال القلب لواحدة ، لابد أن تبقى مساحة فيه للأخرى فلا يميل كل الميل لواحدة ويترك الأخرى وكأنها ليست متزوجة أو " كالمعلقة " .ولقد كانت أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها وزوج النبى صلي الله عليه و سلم لها من المكانة فى قلب النبى صلي الله عليه و سلم ويؤثرها بعاطفة قلبية خاصة وكان يقول صلي الله عليه و سلم : " اللهم هذا قسمى فيما أملك فلا تلمنى فيما تملك ولا أملك " (25)
وعلى ذلك فإن الآية الثانية لا تحرم التعدد المذكور فى الآية الأولى لأن العدل فى الآية الأولى هو المطلوب ـ أى العدل المادى ـ أما فى الآية الثانية فالمطلوب ألا يميل القلب كل الميل لأن مشاعر القلوب خارجة عن إرادة الإنسان واستطاعته وإنما هى بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء ولذلك كان النبى صلي الله عليه و سلم يقول : " اللهم مقلب القلوب ثبت قلبى على دينك " .أما إذا خيف العدل المادى فى التزوج بأكثر من واحدة يتعين الاقتصار على واحدة ولم يجز تجاوزها : ( فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً ) ، ثم تفصح الآية عن حكمة ذلك .. إنها اتقاء الجور وتحقيق العدل : ( ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا ) .
رابعاً : أن الحكمة فى رخصة التعدد بضوابطها ـ والله أعلم بحكمته ـ إنما تتمثل فى الآتى :
1ـ أن هذه الرخصة ليست بدافع التلذذ الحيوانى ، ولا التنقل بين الزوجات ، وإنما هو ضرورة تواجه ضرورة ، وحل يواجه مشكلة حتى لا يقف الإسلام حيال تلك الضرورات وهذه المشكلات مكتوف الأيدى ، ويكون قاصراً عن مواجهة ظروف الحياة ، وحاشا لشرع الله أن يكون كذلك
2ـ إذا افترضنا أننا أمام نظامان ـ كما يقول د/ محمود عمارة ـ أحدهما يبيح التعدد ، ويحرم كل ما وراءه من العلاقات الآثمة بين الجنسين ، ويضرب بيد من حديد على أيدى المتلاعبين بالأعراض ، الخائضين فى ضروب الفحشاء ، والآخر يحرم تعدد الزوجات ويبيح المخادنة والعلاقات الآثمة بين الجنسين ولا يضرب على أية يد تمتد إلى تناول أى محظور فى هذا المجال .. فإذا كان لابد من إباحة التعدد فلا يوجد أفضل ولا أطهر من النظام الأول الذى يحترم آدمية المرأة وحقوقها وأولادها . (27)
3ـ الإسلام فى نظرته للمجتمع ـ فرداً وجماعة ـ ينظر إلى المجتمع نظرة مصلحة وعموم ، ويقدمها على المصلحة الذاتية جلباً للمنافع العامة ودرءاً للمفاسد المهلكة . ومن تمحيص القول نقول : إن هناك سبع حالات تستدعى " التعدد " وهى : حالات خاصة بالمرأة المطلقة والأرملة ، والعانس ، والعقيم ، يضاف إليها حالات خاصة بطبيعة الرجل ، وظروف الحرب ، وسنن الله فى الكون .(28)
فالحالات الخاصة بالمرأة هى :
ـ المطلقة ، والأرملة ، والعانس طوائف ثلاثة تواجه شبح الحرمان ، وقلة الراغبين فيهن للزواج فهن يعشن فى كبت وصراع يغالبن أوارالغريزة الفطرية فيكون أمامهن خياران : إما أن يلجأن إلى سبيل الغواية والانحراف ، وإما أن تكن زوجات لرجال متزوجون فتكون إحداهن زوجة ثانية أو ثالثة أو رابعة . وهناك لابد عقلاً وحكمة أن يكون التعدد لهن هو الحل والحل الواقعى والحكيم والوحيد بدلاً من الوقوع فى الفساد والانحراف.
ـ فى حالة عقم الزوجة ، مع رغبة الزوج الفطرية فى النسل ، حيث يكون أمامه طريقان لا ثالث لهما : أن يطلقها ليستبدل بها زوجة أخرى تلبى رغبته الفطرية فى النسل ، أو أن يتزوج بأخرى ، ويبقى عليها وعلى عشرتها مع الزوجة الثانية .
والخيار الثانى هو الأقرب إلى التعقل والواقعية من شبح الطلاق الذى يحطم البيوت " ولربما وجدت الزوجة العاقر أنساً واسترواحاً فى أطفال الأخرى فتأنس بهم عن حرمانها الخاص "29) والله ( يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ) (30)
أما الحالات الخاصة بالرجل فهى :
ـ يوجد لدى بعض الرجال شدة غريزة ، لا يستطيعون معها التحكم فى غرائزهم فلا تكفى المرأة الواحدة ، إما لضعف فى جسدها أو مرض لا يرجى شفاؤه ، أو لكبر سنها .. فهل يُكبت الرجل ويُصد عن مزاولة نشاطه الفطرى ؟ أم يطلق له العنان ليسافح من يشاء ؟ أم يُرخص له الزواج بأخرى مع الإبقاء على الأولى ؟ .. والحل الثالث هو الحكمة والعقل والدين والصواب وهو الذى يلبى الفطرة ويلبى أخلاقيات الإسلام ومنهجه بل ويحفظ للزوجة الأولى كرامتها وعشرتها .
ـ هناك حالات يزيد فيها عدد النساء على عدد الرجال ـ كما فى حالات الحروب ، وانتشار الأمراض ... وهى كما يقول ـ سيد قطب رحمه الله ـ حالة اختلال اجتماعى واضحة ، فكيف يواجهها المشرع الذى يعمل لحساب المجتمع ولحساب الرجل والمرأة ولحساب النفس الإنسانية جميعاً ؟ .. إن هناك حلاً من حلول ثلاثة :
الحل الاول :
أن يتزوج كل رجل امرأة ، وتبقى امرأة أو اثنان ـ بحسب نسبة الرجال للنساء ـ لا يعرفن فى حياتهن رجلاً ولا بيتاً ولا طفلاً ولا أسرة .
الحل الثانى :
أن يتزوج كل رجل امرأة فيعاشرها معاشرة زوجية ،وأن يختلف إلى الأخريات ـ مخادنة ـ لتعرفن فى حياتهن الرجل دون بيت أو طفل أو أسرة اللهم إلا ما يوجد من سفاح يلحقهم العار والضياع .
الحل الثالث :
أن يتزوج الرجل أكثر من امرأة فيرفعها إلى شرف الزوجية ، وأمان البيت وخانة الأسرة ، وتأمين الطفولة ، ويرفع ضميره من لوثة الجريمة ، وقلق الإثم ، وعذاب الضمير ، ويرفع مجتمعه عن لوثة الفوضى ، واختلاط الأنساب وقذارة الفحش
فأى الحلول أليق بالإنسانية ، وأحق بالرجولة وأكرم للمرأة ذاتها وأنفع ؟31
والجواب :
أنه لا مجال للتفكير لأن الحل الثالث يفرض نفسه فرضاً ، وهو حل ترضاه المرأة نفسها عن طيب خاطر إزاء ظروف طارئة بل تشجعه وتطالب به . فقد طالبت نساء ألمانيا أنفسهن بتعدد الزوجات لذهاب كثير من رجالها وشبابها وقوداً للحرب العالمية ، ورغبة منهن فى حماية أنفسهن من احتراف الرذيلة وحماية للأولاد من عدم الشرعية . وهو ما أوصى به مؤتمر الشباب العالمى فى ميونخ بألمانيا بإباحة تعدد الزوجات حلاً لمشكلة كثرة النساء وقلة الرجال بعد الحرب العالمية الثانية32)
خامساً :
إن الإسلام فى تنظيمه لمسألة التعدد وتقييدها " بالعدل " لم يجعل ذلك فرضاً على المرأة وإكراهاً لها على القبول بل وَكَّل الرضا به والرفض لها . فللمرأة ـ ثيباً أو بكراً ـ مطلق الحرية فى رفض أو قبول من يتقدم للزواج بها ، ولا حق لوليها أن يجبرها على ما لا تريده لقول الرسول صلي الله عليه و سلم : " لا تزوج الأيم ـ الثيب ـ حتى تستأمر ، ولا البكر حتى تستأذن " (33)
ولما اشتكت فتاة إلى النبى صلي الله عليه و سلم إقدام والدها على تزويجها من ابن عمها على غير رغبة منها . فقالت لعائشة رضى الله عنها : إن أبى زوجنى من ابن أخيه يرفع بى خسيسته وأنا كارهة ، فقالت : اجلسى حتى يأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء ، فأخبرته فأرسل إلى أبيها فدعاه فجعل الأمر إليها . فقالت : يا رسول الله أجزت ما صنع أبى ، ولكنى أردت أن أعلم النساء من الأمر شئ " (34)
وخلاصة القول :
أن الإسلام أباح التعدد ـ كما أوضحنا ـ حلاً ومخرجاً مع تقييده بالعدل ومع ذلك فقد اعتبرته الشريعة نوافذ ضيقة لحالات استثنائية اضطرارية وعلاجاً لحالات مرضية قائمة حماية للمجتمع كله . ومع ذلك فالتعدد ليس منتشراً بالصورة التى تزعج النساء وتدعو أصحاب القلوب المريضة أن يعملوا عقولهم وأقلامهم للطعن فى القرآن .
إلا أن بعض المنصفين من غير المسلمين أعملوا العقل وأخلصوا للعلم فلم ينحرفوا للأهواء بل قالوا الحقيقة ومدحوها . يقول اتيين دينيه ـ ـ فى كتابه محمد رسول الله " إن نظرية التوحد فى الزوجة وهى النظرية الآخذة بها المسيحية ظاهراً تنطوى تحتها سيئات متعددة ظهرت على الأخص فى ثلاث نتائج واقعية شديدة الخطر جسيمة البلاء ، تلك هى الدعارة والعوانس من النساء ، والأبناء غير الشرعيين ، وأن هذه الأمراض الاجتماعية ذات السيئات الأخلاقية لم تكن تعرف فى البلاد التى طبقت فيها الشريعة الإسلامية تمام التطبيق ، وإنما دخلتها وانتشرت فيها بعد الاحتكاك بالمدنية الغربية " (35
وهذه كاتبة إنجليزية ـ جريدة لندن تروت ـ تقول : إن قلبى يتقطع شفقة على بنات جنسى الشاردات ولا ينفعنى حزنى وألمى ولو شاركنى فيه الناس جميعاً ، ولا فائدة إلا فى العمل على منع هذه الحالة الرجسة إلا بالإباحة للرجل بأن يتزوج بأكثر من واحدة ، وبهذه الواسطة يزول البلاء لا محالة وتصبح بناتنا ربات بيوت ، فالبلاء كل البلاء فى إجبار الرجل الأوروبى الاكتفاء بامرأة واحدة ... " (36)
وبالتالى فالمجتمع الذى يغلق فى وجه المرأة ـ بدعوى التحرر وإعطاء الحقوق ـ أبواب العلاقات الشرعية فهو يزين لها طريق الرذيلة لكل شهوة هابطة ، ويستروح بها كل مستروح فأى حقوق هذه ؟ وأى كرامة يريدونها للمرأة . وصدق الله إذ يقول : ( مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ)37) ولكن لسان حال الغرب يقول : ( أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) (37)
............................................................
(1) النساء 3
(2) مكانة المرأة فى اليهودية والمسيحية والإسلام ، اللواء أحمد عبد الوهاب صـ 150 ، وزارة الأوقاف ، والتلمود : هو الكتاب الثانى الذى يقول عنه اليهود إنه يضم التعاليم الشفوية لموسى عيه السلام ويجعلونه فى مرتبة أعلا من التوراة .
(3) [ سفر التكوين 35 : 23ـ26 ]
(4) [ سفر العد 3 : 30 ]
5) [ القضاة 8 : 3ـ 31 ] عن : المرأة فى اليهودية والمسيحية والإسلام لزكى أبو عضة صـ 284 ـ 286 .
(6) مركز المراة فى الشريعة اليهودية للسيد محمد عاشور صـ11 ومرجعه : الفكر الدينى الإسرائيلى د/ حسن ظاظا .
(7) التسرى : اتخاذ امرأة مما ملكت اليمين كزوجة بدون عقد زواج ولكن كحق من حقوق السيد على الأمة .
(8) راجع : المرأة فى اليهودية والمسيحية والإسلام لزكى أبو عضة صـ 291ـ 292 .
(9) [ اكورنثوس 7 : 32ـ 34 ] عن : المرأة فى اليهودية والمسيحية والإسلام لزكى أبو عضة صـ 304
(10) النحل 72
(11) الأعراف 189
(12) راجع : المرأة فى ظلال القرآن لسيد قطب إعداد عكاشة عبد المنان صـ 19
(13) رواه البيهقى من حديث سعد بن أبى وقاص .
(14) رواه ابن ماجة فى كتاب النكاح ح 1862
(15) رواه ابن ماجة فى كتاب النكاح ح 1846
(16) رواه النسائى ح 2242 ، وأحمد فى مسنده ( 1/ 58 ) .
(17) النساء 3
(18) رواه البخارى فى الأدب المفرد ح 256 ، وابن ماجة فى النكاح وأحمد فى مسنده ( 2/13، 14 )
(19) رواه أبو داود ح 2241 ، وابن ماجة 1952
20) أخرجه الشافعى فى كتاب النكاح جـ2/ 19
(21) النساء 3
(22) أخرجه النسائى ح 3942 ، والترمذى ح 1141 ، وابن ماجة ح 1969 ، والدارمى ح 2206 ، وأحمد ح 8363 ، 9740 .
(23) أخرجه مسلم فى كتاب الإمارة ح 1827 .
(24) النساء 129
(25) أخرجه أبو داود ح 1234 ، والترمذى ح 1140 ، والنسائى ح 647 ، وابن ماجة ح 1971)
27) راجع : تحرير المرأة من أوهام المتجاهلين ، للدكتور محمود عمارة صـ123، 124
(28) راجع : القرآن يتحدث عن المرأة لعبد الرحمن البربرى صـ39
(29) راجع : المرأة فى ظلال القرآن صـ 85 ، 86
(30) الشورى 49
(31) راجع : السلام العالمى والإسلام ، لسيد قطب صـ95ـ 97 ، دار الشروق ط13 1422هـ ـ 2001 م
.
32) راجع : تعدد الزوجات وحكمته فى الإسلام للدكتور جمعة الخولى صـ4
(33) أخرجه البخارى ح 5136 ، ومسلم ح 1419 ، والترمذى ح 1107 ، والنسائى 3265 ، وابن ماجة ح 1811 ، أبو داود ح 2092 ، والدارمى ح 2186 ، وأحمد فى مسنده .
(34) أخرجه أبو داود ح 2096 ، وابن ماجة ح 1874 ، وأحمد فى مسنده ح 24650 ، والبيهقى فى السنن (7/200)
(35) محمد رسول الله : اتيين دينية ، وسليمان إبراهيم صـ395 ، ترجمة د/ عبد الحليم محمود ، ومحمد عبد الحليم ، نهضة مصر ط2 1958م .
(36) حقوق النساء فى الإسلام لرشيد رضا صـ 75 عن : تعدد الزوجات وحكمته فى الإسلام للدكتور جمعة الخولى.
(37) النساء 25
(38) النمل 56 54
لقد طعن أعداء الاسلام و من فى قلوبهم مرض و من سار على نهجهم فى آيات القرآن التى تنظم أمر تعددالزوجات فى قوله تعالى : ( فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ ) (1) فيصفون ـ أى أعداء الدين ـ القرآن بأنه قد حط من شأن المرأة وحقوقها وأنه ردة إلى أعمال الجاهلية الأولى !!
وقبل أن نوضح التعدد فى الإسلام وأهدافه نجيب عن سؤال مهم وهو :
هل الإسلام هو الذى أوجد التعدد ، أم أنه كان موجوداً قبل الإسلام ؟
إن الثابت تاريخياً أن تعدد الزوجات ظاهرة عرفتها البشرية منذ أقدم العصور وفى جميع البيئات قبل الإسلام :
فى التوراة والديانة اليهودية:
لقد أباحت التوراة لليهودى الزواج بأكثر من واحدة ، ولم تحدد له عدداً ما إلا أن التلمود حدد العدد بأربعة على شرط أن يكون الزوج قادراً على إعالتهن إذ يقول : إنه لا يجوز أن يزيد الرجل على أربع زوجات ، كما فعل يعقوب إلا إذا كان قد أقسم بذلك عند زواجه الأول . وإن كان قد اشترط لمثل هذا العدد القدرة على الإنفاق (2)
فى سفر التكوين:
تزوج يعقوب عليه السلام : " (31) أبناء ليئة .. (24) وأبناء راحيل .. (25) وأبنا بلهة جارية راحيل .. (26) وابنا زلفة جارية ليئة ... " (3) فكانت له أربع حلائل فى وقت واحد : اختان هما ليئة ، وراحيل ، وجاريتين لهما .
فى سفر العدد:
وكانت لسيدنا داود عليه السلام عدة زوجات والعديد من الجوارى وكذلك لابنه سليمان عليه السلام : " أما سليمان فقد زاد الألف ويقول عنه الرب فى التوراة فولدت له داود كما تزوج أبيا ملك يهود أربعة عشر زوجة " (4) وكان لجدعون سبعون ولداً جميعهم من صلبه لأنه كان مزواجاً (31) وولدت له ايفنا سريته التى فى شكيم ابناً دعاه أبيمالك (5) ولكن نظام التعدد تم إلغاؤه طبقاً لقوانين مدنية أفتى بها علماء اليهود وأقرتها المجامع اليهودية ، وعلى ذلك اكتسبت صفة الشرعية . وقد نصت المادة 54 من كتاب الأحكام الشرعية للإسرائليين على أنه : " لا ينبغى للرجل أن يكون له أكثر من زوجة وعليه أن يحلف يميناً على هذا حين العقد " (6) ولذلك أصبح أساس التحريم ليس التوراة ، ولكن القسم على عدم القيام هو الأساس .
التعدد فى الإنجيل والديانة المسيحية:
أقرت المسيحية فى بدايتها ما أقرته اليهودية فى التعدد واستمر رجال الكنيسة لا يعترضون على ذلك حتى القرن السابع عشر الذى بدأ فيه الحظر ثم تقرر عام 1750م . ودعواهم فى ذلك ـ أى رجال الدين ـ أن ذلك إعلاء لشأنهم حتى يتفرغوا للدعوة فلا تشغلهم مشاكل النساء عن رعاية الكنيسة وأبنائها .
وقد تدرج المنع فبدأ أولاً بتحريمه على رجال الكنيسة دون غيرهم . ثم أصبح الزواج الأول لغير رجال الكنيسة هو الذى يتم بطريقة المراسيم الدينية ، وإذا أراد المسيحى الزواج بالثانية فيتم بدون مراسيم دينية ثم منع الزواج بأكثر من واحدة مع جواز التسرى (7) ولكنه أيضاً منع عام 970 بأمر البطريك إبرام السوربانى (8)
وهكذا كان المنع والرجوع فيه تشريعاً وضعياً وليس سماوياً .. ثم كانت دعوتهم إلى التبتل وقد انفردت به المسيحية دون الأديان الأخرى واعتبرته دليلاً على صلاح النفس وسبباً للقداسة والرقى فى درجات الإيمان أو الكنيسة ، فالشهوة فى اعتقادهم عيب ورذيلة لا ينبغى تحلى القديسين بها !! ولقد كان من تبرير " بولس " فى دعواه لعدم الزواج : " (32) فأريد لكم أن تكون بلا هَمْ ، إن غير المتزوج مهتم بأمور الرب (33) وهدفه أن يرضى الرب ، أما المتزوج فيهتم بأمور العالم وهدفه أن يرضى زوجته (34) فاهتمامه منقسم لذلك غير المتزوجة والعزباء تهتمان بأمور الرب وهدفهما أن تكونا مقدستين جسداً وروحاً " (9)
وهكذا حرفوا الكلم عن مواضعه فأصبحت أفكارهم هدامة ومبادؤهم خاطئة لا يقبلها عقل سليم ولا فطرة نقية .. فمن أين يأتى النسل والتكاثر البشرى بدون زواج شرعى ؟ وأين تذهب المودة والرحمة والسكينة ؟ وأين تنطفئ الشهوة الغريزية التى أودعها الله فى الإنسان ورسم لها الطريق الصحيح لتصريفها ؟ وأين يكون بيت الزوجية الحصن المانع من الإنزلاق فى الفاحشة واتخاذ الأخدان ؟ وأين تذهب عاطفة الأمومة الغريزية الفطرية وكذلك عاطفة الأبوة ؟ ....
التعدد فى الإسلام :
لقد شرع الله الزواج لبنى آدم : ( وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً )10) تكريماً لهم وإتماماً لنعمته عليهم وتطهيراً للقلوب والأبدان من أوضار الرجس والفحش والانحلال ومرتقى لهم إلى العفاف والتحصن والسكينة والمودة والرحمة والتكامل والاستقرار ، والزواج هو أعمق وأقوى وأدوم رابطة تصل بين اثنين من بنى الإنسان ، وتشمل أوسع الاستجابات التى يتبادلها فردان من نفس واحدة فى طبيعتها وتكوينها ، وإن اختلفت وظيفتها بين الذكر والأنثى : ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ) (11) فهذه هى نظرة الإسلام لحقيقة الإنسان ، ووظيفته الزوجية فى تكوينه وهى نظرة كاملة وصادقة (12)
فلم يجعل الإسلام تبتلاً ولا رهبانية: " إن الله أبدلنا الرهبانية الحنيفية السمحة " (13) بل جعل الزواج سبيلاً للصفاء والطهر والعفاف لقول الرسول صلي الله عليه و سلم: " من أراد أن يلقى الله طاهراً مطهراً فليتزوج الحرائر " (14) ويقول أيضاً رسول الله صلي الله عليه و سلم : " النكاح سنتى فمن لم يعمل بسنتى فليس منى وتزوجوا فإنى مكاثر بكم الأمم " (15) ويقول أيضاً : " من كان منكم ذا طول فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ... " (16)ومما شرعه الإسلام أيضاً رخصة " تعدد الزوجات " إذا اقتضت الضرورة وألجأت الحاجة إلى ذلك ولنا أن ندلل على ذلك فى نقاط :
أولاً : أن الإسلام لم يبتدع التعدد ، وإنما جاء فوجده منتشراً ومعروفاً فى كل بيئه ، وكان العرب فى الجاهلية يمارسونه على نطاق واسع لا يتقيدون فيه باعتبار من الاعتبارات .
ثانياً : بما أن الإسلام جاء لتنظيم أمور الناس وأحوالهم كان لا بد أن يتدخل لينظم أمر التعدد المطلق ويمنع ضرره وشره ويقيده ويهذبه ويجعله وافياً بحقوق المصلحة العامة : ( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ ) (17) وعلى إثر نزول هذه الآية أمر الرسول صلي الله عليه و سلم من كان معه أكثر من أربع أن يمسك منهن أربعاً ويسرح الباقى فقد روى البخارى فى الأدب المفرد أن غيلان بن سلمة الثقفى أسلم وتحته عشر نسوة فقال له النبى صلي الله عليه و سلم " اختر منهن أربعاً " (18) وروى أبو داود بإسناده أن عميرة الأسدى قال : أسلمت وعندى ثمانى نسوة ، فذكرت ذلك للنبى صلي الله عليه و سلم فقال : " اختر منهن أربعاً " (19) وأخرج الشافعى فى مسنده عن نوفل بن معاوية الديلمى قال : أسلمت وعندى خمسة نسوة فقال لى رسول الله صلي الله عليه و سلم: " اختر أربعاً أيتهن شئت وفارق الأخرى " فعمدت إلى أقدمهن عندى عاقراً منذ ستين سنة ففارقتها (20) وهكذا قيد الإسلام التعدد بأربعة بعد أن كان مطلقاً بدون حد منطلقاً بدون قيد .
ثالثاً : لم يترك الإسلام مبدأ التعدد لهوى الرجل بل قيده أيضاً " بالعدل " وإلا امتنعت الرخصة المعطاة له ، وجعل لذلك نوعين من العدل :
النوع الأول : عدل واجب ومطلوب : وهو العدل فى المعاملة ، والنفقة والمعاشرة ، والمباشرة ، وسائر الأوضاع الظاهرة ، بحيث لا ينقص إحدى الزوجات شئ منها ولا تؤثر واحدة دون الأخرى بشئ منها . وهذا ما نصت عليه الآية الشريفة : ( فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً ) (21)ويقول الرسول صلي الله عليه و سلم : " من كانت عنده امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه ساقط " (22) وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلي الله عليه و سلم قال : " إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن ـ وكلتا يديه يمين ـ الذين يعدلون فى حكمهم وأهليهم وما ولوا " (23)
النوع الثانى : العدل فى المشاعر : مشاعر القلوب وأحاسيس التقوى ، وهو عدل خارج عن إرادة الإنسان ، ولا يطالب به بنى الإنسان ، وهو الذى ذكرته الآية : ( وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ ) (24).
ولكنه عدل ينتفى معه الظلم بحيث إذا مال القلب لواحدة ، لابد أن تبقى مساحة فيه للأخرى فلا يميل كل الميل لواحدة ويترك الأخرى وكأنها ليست متزوجة أو " كالمعلقة " .ولقد كانت أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها وزوج النبى صلي الله عليه و سلم لها من المكانة فى قلب النبى صلي الله عليه و سلم ويؤثرها بعاطفة قلبية خاصة وكان يقول صلي الله عليه و سلم : " اللهم هذا قسمى فيما أملك فلا تلمنى فيما تملك ولا أملك " (25)
وعلى ذلك فإن الآية الثانية لا تحرم التعدد المذكور فى الآية الأولى لأن العدل فى الآية الأولى هو المطلوب ـ أى العدل المادى ـ أما فى الآية الثانية فالمطلوب ألا يميل القلب كل الميل لأن مشاعر القلوب خارجة عن إرادة الإنسان واستطاعته وإنما هى بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء ولذلك كان النبى صلي الله عليه و سلم يقول : " اللهم مقلب القلوب ثبت قلبى على دينك " .أما إذا خيف العدل المادى فى التزوج بأكثر من واحدة يتعين الاقتصار على واحدة ولم يجز تجاوزها : ( فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً ) ، ثم تفصح الآية عن حكمة ذلك .. إنها اتقاء الجور وتحقيق العدل : ( ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا ) .
رابعاً : أن الحكمة فى رخصة التعدد بضوابطها ـ والله أعلم بحكمته ـ إنما تتمثل فى الآتى :
1ـ أن هذه الرخصة ليست بدافع التلذذ الحيوانى ، ولا التنقل بين الزوجات ، وإنما هو ضرورة تواجه ضرورة ، وحل يواجه مشكلة حتى لا يقف الإسلام حيال تلك الضرورات وهذه المشكلات مكتوف الأيدى ، ويكون قاصراً عن مواجهة ظروف الحياة ، وحاشا لشرع الله أن يكون كذلك
2ـ إذا افترضنا أننا أمام نظامان ـ كما يقول د/ محمود عمارة ـ أحدهما يبيح التعدد ، ويحرم كل ما وراءه من العلاقات الآثمة بين الجنسين ، ويضرب بيد من حديد على أيدى المتلاعبين بالأعراض ، الخائضين فى ضروب الفحشاء ، والآخر يحرم تعدد الزوجات ويبيح المخادنة والعلاقات الآثمة بين الجنسين ولا يضرب على أية يد تمتد إلى تناول أى محظور فى هذا المجال .. فإذا كان لابد من إباحة التعدد فلا يوجد أفضل ولا أطهر من النظام الأول الذى يحترم آدمية المرأة وحقوقها وأولادها . (27)
3ـ الإسلام فى نظرته للمجتمع ـ فرداً وجماعة ـ ينظر إلى المجتمع نظرة مصلحة وعموم ، ويقدمها على المصلحة الذاتية جلباً للمنافع العامة ودرءاً للمفاسد المهلكة . ومن تمحيص القول نقول : إن هناك سبع حالات تستدعى " التعدد " وهى : حالات خاصة بالمرأة المطلقة والأرملة ، والعانس ، والعقيم ، يضاف إليها حالات خاصة بطبيعة الرجل ، وظروف الحرب ، وسنن الله فى الكون .(28)
فالحالات الخاصة بالمرأة هى :
ـ المطلقة ، والأرملة ، والعانس طوائف ثلاثة تواجه شبح الحرمان ، وقلة الراغبين فيهن للزواج فهن يعشن فى كبت وصراع يغالبن أوارالغريزة الفطرية فيكون أمامهن خياران : إما أن يلجأن إلى سبيل الغواية والانحراف ، وإما أن تكن زوجات لرجال متزوجون فتكون إحداهن زوجة ثانية أو ثالثة أو رابعة . وهناك لابد عقلاً وحكمة أن يكون التعدد لهن هو الحل والحل الواقعى والحكيم والوحيد بدلاً من الوقوع فى الفساد والانحراف.
ـ فى حالة عقم الزوجة ، مع رغبة الزوج الفطرية فى النسل ، حيث يكون أمامه طريقان لا ثالث لهما : أن يطلقها ليستبدل بها زوجة أخرى تلبى رغبته الفطرية فى النسل ، أو أن يتزوج بأخرى ، ويبقى عليها وعلى عشرتها مع الزوجة الثانية .
والخيار الثانى هو الأقرب إلى التعقل والواقعية من شبح الطلاق الذى يحطم البيوت " ولربما وجدت الزوجة العاقر أنساً واسترواحاً فى أطفال الأخرى فتأنس بهم عن حرمانها الخاص "29) والله ( يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ) (30)
أما الحالات الخاصة بالرجل فهى :
ـ يوجد لدى بعض الرجال شدة غريزة ، لا يستطيعون معها التحكم فى غرائزهم فلا تكفى المرأة الواحدة ، إما لضعف فى جسدها أو مرض لا يرجى شفاؤه ، أو لكبر سنها .. فهل يُكبت الرجل ويُصد عن مزاولة نشاطه الفطرى ؟ أم يطلق له العنان ليسافح من يشاء ؟ أم يُرخص له الزواج بأخرى مع الإبقاء على الأولى ؟ .. والحل الثالث هو الحكمة والعقل والدين والصواب وهو الذى يلبى الفطرة ويلبى أخلاقيات الإسلام ومنهجه بل ويحفظ للزوجة الأولى كرامتها وعشرتها .
ـ هناك حالات يزيد فيها عدد النساء على عدد الرجال ـ كما فى حالات الحروب ، وانتشار الأمراض ... وهى كما يقول ـ سيد قطب رحمه الله ـ حالة اختلال اجتماعى واضحة ، فكيف يواجهها المشرع الذى يعمل لحساب المجتمع ولحساب الرجل والمرأة ولحساب النفس الإنسانية جميعاً ؟ .. إن هناك حلاً من حلول ثلاثة :
الحل الاول :
أن يتزوج كل رجل امرأة ، وتبقى امرأة أو اثنان ـ بحسب نسبة الرجال للنساء ـ لا يعرفن فى حياتهن رجلاً ولا بيتاً ولا طفلاً ولا أسرة .
الحل الثانى :
أن يتزوج كل رجل امرأة فيعاشرها معاشرة زوجية ،وأن يختلف إلى الأخريات ـ مخادنة ـ لتعرفن فى حياتهن الرجل دون بيت أو طفل أو أسرة اللهم إلا ما يوجد من سفاح يلحقهم العار والضياع .
الحل الثالث :
أن يتزوج الرجل أكثر من امرأة فيرفعها إلى شرف الزوجية ، وأمان البيت وخانة الأسرة ، وتأمين الطفولة ، ويرفع ضميره من لوثة الجريمة ، وقلق الإثم ، وعذاب الضمير ، ويرفع مجتمعه عن لوثة الفوضى ، واختلاط الأنساب وقذارة الفحش
فأى الحلول أليق بالإنسانية ، وأحق بالرجولة وأكرم للمرأة ذاتها وأنفع ؟31
والجواب :
أنه لا مجال للتفكير لأن الحل الثالث يفرض نفسه فرضاً ، وهو حل ترضاه المرأة نفسها عن طيب خاطر إزاء ظروف طارئة بل تشجعه وتطالب به . فقد طالبت نساء ألمانيا أنفسهن بتعدد الزوجات لذهاب كثير من رجالها وشبابها وقوداً للحرب العالمية ، ورغبة منهن فى حماية أنفسهن من احتراف الرذيلة وحماية للأولاد من عدم الشرعية . وهو ما أوصى به مؤتمر الشباب العالمى فى ميونخ بألمانيا بإباحة تعدد الزوجات حلاً لمشكلة كثرة النساء وقلة الرجال بعد الحرب العالمية الثانية32)
خامساً :
إن الإسلام فى تنظيمه لمسألة التعدد وتقييدها " بالعدل " لم يجعل ذلك فرضاً على المرأة وإكراهاً لها على القبول بل وَكَّل الرضا به والرفض لها . فللمرأة ـ ثيباً أو بكراً ـ مطلق الحرية فى رفض أو قبول من يتقدم للزواج بها ، ولا حق لوليها أن يجبرها على ما لا تريده لقول الرسول صلي الله عليه و سلم : " لا تزوج الأيم ـ الثيب ـ حتى تستأمر ، ولا البكر حتى تستأذن " (33)
ولما اشتكت فتاة إلى النبى صلي الله عليه و سلم إقدام والدها على تزويجها من ابن عمها على غير رغبة منها . فقالت لعائشة رضى الله عنها : إن أبى زوجنى من ابن أخيه يرفع بى خسيسته وأنا كارهة ، فقالت : اجلسى حتى يأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء ، فأخبرته فأرسل إلى أبيها فدعاه فجعل الأمر إليها . فقالت : يا رسول الله أجزت ما صنع أبى ، ولكنى أردت أن أعلم النساء من الأمر شئ " (34)
وخلاصة القول :
أن الإسلام أباح التعدد ـ كما أوضحنا ـ حلاً ومخرجاً مع تقييده بالعدل ومع ذلك فقد اعتبرته الشريعة نوافذ ضيقة لحالات استثنائية اضطرارية وعلاجاً لحالات مرضية قائمة حماية للمجتمع كله . ومع ذلك فالتعدد ليس منتشراً بالصورة التى تزعج النساء وتدعو أصحاب القلوب المريضة أن يعملوا عقولهم وأقلامهم للطعن فى القرآن .
إلا أن بعض المنصفين من غير المسلمين أعملوا العقل وأخلصوا للعلم فلم ينحرفوا للأهواء بل قالوا الحقيقة ومدحوها . يقول اتيين دينيه ـ ـ فى كتابه محمد رسول الله " إن نظرية التوحد فى الزوجة وهى النظرية الآخذة بها المسيحية ظاهراً تنطوى تحتها سيئات متعددة ظهرت على الأخص فى ثلاث نتائج واقعية شديدة الخطر جسيمة البلاء ، تلك هى الدعارة والعوانس من النساء ، والأبناء غير الشرعيين ، وأن هذه الأمراض الاجتماعية ذات السيئات الأخلاقية لم تكن تعرف فى البلاد التى طبقت فيها الشريعة الإسلامية تمام التطبيق ، وإنما دخلتها وانتشرت فيها بعد الاحتكاك بالمدنية الغربية " (35
وهذه كاتبة إنجليزية ـ جريدة لندن تروت ـ تقول : إن قلبى يتقطع شفقة على بنات جنسى الشاردات ولا ينفعنى حزنى وألمى ولو شاركنى فيه الناس جميعاً ، ولا فائدة إلا فى العمل على منع هذه الحالة الرجسة إلا بالإباحة للرجل بأن يتزوج بأكثر من واحدة ، وبهذه الواسطة يزول البلاء لا محالة وتصبح بناتنا ربات بيوت ، فالبلاء كل البلاء فى إجبار الرجل الأوروبى الاكتفاء بامرأة واحدة ... " (36)
وبالتالى فالمجتمع الذى يغلق فى وجه المرأة ـ بدعوى التحرر وإعطاء الحقوق ـ أبواب العلاقات الشرعية فهو يزين لها طريق الرذيلة لكل شهوة هابطة ، ويستروح بها كل مستروح فأى حقوق هذه ؟ وأى كرامة يريدونها للمرأة . وصدق الله إذ يقول : ( مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ)37) ولكن لسان حال الغرب يقول : ( أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) (37)
............................................................
(1) النساء 3
(2) مكانة المرأة فى اليهودية والمسيحية والإسلام ، اللواء أحمد عبد الوهاب صـ 150 ، وزارة الأوقاف ، والتلمود : هو الكتاب الثانى الذى يقول عنه اليهود إنه يضم التعاليم الشفوية لموسى عيه السلام ويجعلونه فى مرتبة أعلا من التوراة .
(3) [ سفر التكوين 35 : 23ـ26 ]
(4) [ سفر العد 3 : 30 ]
5) [ القضاة 8 : 3ـ 31 ] عن : المرأة فى اليهودية والمسيحية والإسلام لزكى أبو عضة صـ 284 ـ 286 .
(6) مركز المراة فى الشريعة اليهودية للسيد محمد عاشور صـ11 ومرجعه : الفكر الدينى الإسرائيلى د/ حسن ظاظا .
(7) التسرى : اتخاذ امرأة مما ملكت اليمين كزوجة بدون عقد زواج ولكن كحق من حقوق السيد على الأمة .
(8) راجع : المرأة فى اليهودية والمسيحية والإسلام لزكى أبو عضة صـ 291ـ 292 .
(9) [ اكورنثوس 7 : 32ـ 34 ] عن : المرأة فى اليهودية والمسيحية والإسلام لزكى أبو عضة صـ 304
(10) النحل 72
(11) الأعراف 189
(12) راجع : المرأة فى ظلال القرآن لسيد قطب إعداد عكاشة عبد المنان صـ 19
(13) رواه البيهقى من حديث سعد بن أبى وقاص .
(14) رواه ابن ماجة فى كتاب النكاح ح 1862
(15) رواه ابن ماجة فى كتاب النكاح ح 1846
(16) رواه النسائى ح 2242 ، وأحمد فى مسنده ( 1/ 58 ) .
(17) النساء 3
(18) رواه البخارى فى الأدب المفرد ح 256 ، وابن ماجة فى النكاح وأحمد فى مسنده ( 2/13، 14 )
(19) رواه أبو داود ح 2241 ، وابن ماجة 1952
20) أخرجه الشافعى فى كتاب النكاح جـ2/ 19
(21) النساء 3
(22) أخرجه النسائى ح 3942 ، والترمذى ح 1141 ، وابن ماجة ح 1969 ، والدارمى ح 2206 ، وأحمد ح 8363 ، 9740 .
(23) أخرجه مسلم فى كتاب الإمارة ح 1827 .
(24) النساء 129
(25) أخرجه أبو داود ح 1234 ، والترمذى ح 1140 ، والنسائى ح 647 ، وابن ماجة ح 1971)
27) راجع : تحرير المرأة من أوهام المتجاهلين ، للدكتور محمود عمارة صـ123، 124
(28) راجع : القرآن يتحدث عن المرأة لعبد الرحمن البربرى صـ39
(29) راجع : المرأة فى ظلال القرآن صـ 85 ، 86
(30) الشورى 49
(31) راجع : السلام العالمى والإسلام ، لسيد قطب صـ95ـ 97 ، دار الشروق ط13 1422هـ ـ 2001 م
.
32) راجع : تعدد الزوجات وحكمته فى الإسلام للدكتور جمعة الخولى صـ4
(33) أخرجه البخارى ح 5136 ، ومسلم ح 1419 ، والترمذى ح 1107 ، والنسائى 3265 ، وابن ماجة ح 1811 ، أبو داود ح 2092 ، والدارمى ح 2186 ، وأحمد فى مسنده .
(34) أخرجه أبو داود ح 2096 ، وابن ماجة ح 1874 ، وأحمد فى مسنده ح 24650 ، والبيهقى فى السنن (7/200)
(35) محمد رسول الله : اتيين دينية ، وسليمان إبراهيم صـ395 ، ترجمة د/ عبد الحليم محمود ، ومحمد عبد الحليم ، نهضة مصر ط2 1958م .
(36) حقوق النساء فى الإسلام لرشيد رضا صـ 75 عن : تعدد الزوجات وحكمته فى الإسلام للدكتور جمعة الخولى.
(37) النساء 25
(38) النمل 56 54
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق